الاستيطان في غزة- حلم إسرائيلي يواجه صمودًا فلسطينيًا

منذ ما يزيد على العام، لم يكف قادة المستوطنين وزعماء الحركات الاستيطانية الإسرائيلية عن التبشير بشكل يومي بقرب عودة المستوطنين إلى قطاع غزة واستعادة المستوطنات التي تم إخلاؤها أثناء الانسحاب الإسرائيلي عام 2005.
لم تقتصر هذه المطالبات والنداءات على الآونة الأخيرة، بل انطلقت بالفعل مع بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول من العام المنصرم. ومع ذلك، لم يتم التعامل مع هذه النداءات بجدية من قبل المجتمع الدولي في ذلك الوقت وسط ضجيج الانتقام والتهور الإسرائيلي الذي أعقب عملية "طوفان الأقصى".
إلا أن تجدد الحديث بقوة عن إعادة الاستيطان في قطاع غزة وتصدره لوسائل الإعلام الإسرائيلية في الوقت الراهن، يدل بوضوح على أن ما كان يُعد قبل عام مجرد شعارات انتقامية عاطفية نابعة من حجم الألم الذي لحق بإسرائيل، أصبح الآن موضوعًا قابلاً للنقاش والتداول في الشارع الإسرائيلي، خاصة بعد إبرام اتفاق وقف إطلاق النار في جنوب لبنان، وفي ظل العنف الإسرائيلي الهائل وغير المسبوق في شمال غزة تحديدًا، والذي يهدف بشكل رئيسي إلى تطهير شمال غزة عرقيًا من السكان الفلسطينيين الأصليين.
فمع انطلاق الحرب الإسرائيلية على غزة قبل عام، سارع عدد من رموز المستوطنين، مثل دانييلا فايس، رئيسة حركة "ناحالاه" الاستيطانية، وإيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي، وبتسلئيل سموتريتش، وزير المالية، وغيرهم من الشخصيات الاستيطانية المعروفة، إلى عقد اجتماع داخلي لمناقشة الخطوات العملية الواجب اتخاذها من أجل إعادة الاستيطان في قطاع غزة. وتجاوز الأمر ذلك، حيث قام المشاركون في الاجتماع بتقسيم مناطق قطاع غزة إلى قطع أراضٍ وتوزيعها فيما بينهم وكأنهم يقتسمون غنيمة حرب.
وما إن تسربت أخبار هذا الاجتماع إلى وسائل الإعلام، سارعت حكومة بنيامين نتنياهو إلى التنصل من الجهات القائمة عليه، بمن فيهم الوزيران بن غفير وسموتريتش، وأكدت بشكل قاطع أنه "لا توجد أي نية إسرائيلية للاستيطان في قطاع غزة".
خطة الجنرالات في شمال غزة
ولكن مع مرور الوقت وتلاشي الحديث عن مسألة الاستيطان في وسائل الإعلام، اتخذت إسرائيل خطوة أكثر جدية عندما تبنت حكومة نتنياهو في سبتمبر/ أيلول الماضي خطة قدمها عدد من الجنرالات في جيش الاحتلال الإسرائيلي بقيادة الجنرال السابق غيورا آيلاند، عُرفت باسم "خطة الجنرالات"، وتهدف إلى تأمين المناطق المتاخمة لقطاع غزة عبر إخلاء منطقة شمال غزة من الفلسطينيين بشكل تام وإحكام السيطرة عليها من خلال تحويلها إلى منطقة عسكرية مغلقة.
وبهذا، عادت فكرة الاستيطان لتطفو على السطح بقوة مع بدء الاحتلال لعمليته العسكرية الشرسة في شمال غزة لتنفيذ "خطة الجنرالات" الرامية إلى تفريغ المنطقة بالكامل من سكانها، ومحاولة إجبارهم قسرًا على المغادرة في عملية تطهير عرقي شاملة، أو القضاء عليهم جميعًا في حملة إبادة جماعية غير مسبوقة في تاريخ الصراع.
بالتزامن مع ذلك، عاد الحديث عن الاستيطان والإحلال العنصري في شمال غزة على وجه الخصوص، ليتصدر اهتمام وسائل الإعلام الإسرائيلية وتصريحات الوزراء والساسة وقادة الأحزاب وحتى الصحفيين الإسرائيليين، مثل مطالبة وزير الإسكان الإسرائيلي، يتسحاق غولدكنوف، بالرد على مذكرة الاعتقال الصادرة بحق نتنياهو وغالانت من قبل المحكمة الجنائية الدولية، وذلك من خلال الاستيطان في غزة.
وأصبح السؤال الذي يطرحه الإسرائيليون اليوم في قنواتهم الإعلامية هو: "ما مدى إمكانية تطبيق الاستيطان في قطاع غزة؟" بدلاً من السؤال عما إذا كانت الفكرة مقبولة أم مرفوضة.
أما رد نتنياهو في وسائل الإعلام الإسرائيلية على هذه الفكرة، فلا يزال يتسم بالمراوغة والتلاعب اللفظي. فعندما سئل في إحدى المقابلات الإعلامية حول هذا الموضوع، لم يجب سوى أن تطبيق فكرة عودة المستوطنين إلى غزة "غير واقعي". لم يقل إنها مرفوضة أو غير مطروحة، وإنما "غير واقعية". وهذا يعني أن هناك عقبات تعترض طريق تطبيقها وتجعله غير ممكن، وبالتالي ينقل السؤال إلى زاوية أخرى: ماذا لو تم تهيئة الظروف التي تجعل الاستيطان ممكنًا؟ هل ستصبح الفكرة واقعية حينها؟
والأمر الذي يستدعي الانتباه في هذا السياق هو أن أي نفي يصدر عن نتنياهو يجب ألا يؤخذ على محمل الجد، لأنه إذا كانت هناك صفة يتميز بها نتنياهو، فهي الكذب بدم بارد. فهو يعتبر الكذب في السياسة ضربًا من ضروب الذكاء! لذلك، يجب ألا نصدق تصريحاته التي تنفي – ظاهريًا – نيته تشجيع الاستيطان في غزة، بل يجب أن نراقب عن كثب كيف يتعامل عمليًا مع تصريحات اليمين المتطرف في إسرائيل بشأن هذه القضية.
والواقع أن تعامل نتنياهو مع هذه التصريحات يوحي بأنه منفتح على فكرة إعادة الاستيطان في قطاع غزة. وقد سبق له أن صرح في أكثر من مناسبة بضرورة ترسيخ "وجود إسرائيلي طويل الأمد" في بعض مناطق القطاع، دون أن يحدد ماهية هذا الوجود وطبيعته، وهو ما يدل على أنه لا يمانع فكرة الاستيطان من حيث المبدأ.
هل تستطيع إسرائيل فعلها؟
وهذا يفتح الباب أمام التساؤل عن مدى منطقية هذا الأمر وقدرة إسرائيل على تنفيذ مخطط استيطاني على النحو الذي تحلم به دانييلا فايس وبن غفير وسموتريتش. وللإجابة على هذا السؤال، يجب أن ندرك أولاً أن تنفيذ مخطط استيطاني إسرائيلي في غزة لا يمكن أن يتم بنفس الطريقة التي تم بها الاستيطان في الضفة الغربية، كما زعمت فايس في آخر مؤتمر استيطاني لها في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ولا حتى على غرار الاستيطان الذي حدث عام 1967 في غزة، أي الاستيطان مع بقاء الفلسطينيين في القطاع، لأن الظروف الموضوعية اليوم في غزة مختلفة تمامًا.
ومن المفترض أن تبدأ الخطوات التي يمكن أن تتخذها إسرائيل لتنفيذ مثل هذا المخطط بتهجير الفلسطينيين بشكل كامل من قطاع غزة، أو على الأقل من شمال القطاع، لأنه من المستحيل أن تعيش المستوطنات وسط الفلسطينيين في القطاع بعد كل ما حدث.
وهذا تحديدًا ما يكثر بن غفير من ذكره مؤخرًا في تصريحاته المتكررة حول تشجيع ما يسميه "الهجرة الطوعية"، وهي تسمية لطيفة ومخففة للتطهير العرقي الذي صرح به موشيه يعلون، وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، قبل أيام.
فهل يمكن أن تنجح إسرائيل في ذلك؟
قبل الإجابة على هذا السؤال، يجب علينا مراجعة التصريحات الإسرائيلية المتعلقة بعملية إفراغ القطاع من السكان منذ بداية الأحداث. ففي بداية الحرب، طرحت إسرائيل فكرة تهجير سكان القطاع بأكمله إلى شبه جزيرة سيناء المصرية، وعملت بكل قوة لإقناع العالم بهذا "الحل"، لكنها فشلت أولاً في إقناع المجتمع الدولي، وثانيًا في ترويج هذه الفكرة لدى الشعب الفلسطيني في غزة، على الرغم من زعمها بأنه حل مؤقت.
وأدى فشل فكرة تهجير سكان القطاع بأكمله إلى تحول إسرائيل إلى مخطط تفريغ شمال غزة عبر اقتراح ما سمي آنذاك "مناطق آمنة" في جنوب القطاع. إلا أنها فشلت في إخلاء مدينة غزة وشمال القطاع من السكان، حيث أصر أكثر من 800 ألف فلسطيني على البقاء هناك.
وتبين لاحقًا أن قرارهم كان صائبًا بعد أن قصفت إسرائيل ما أسمته هي "المناطق الآمنة" في خان يونس ورفح أكثر من مرة. ومع تزايد حدة العنف والقتل ضد سكان شمال غزة، لا يزال حوالي 80 ألف فلسطيني يصرون على البقاء في مناطقهم ويرفضون الاستجابة لمحاولات إسرائيل لإجبارهم على النزوح جنوبًا.
لقد فشلت إسرائيل مرارًا وتكرارًا في عملية إخلاء مناطق شمال غزة من السكان، على الرغم من كل عمليات الإبادة التي ارتكبتها بهدف ترويع السكان وإجبارهم قسرًا على النزوح باتجاه الجنوب. وبالتالي، لا يوجد ما يشير إلى قدرة إسرائيل على تطبيق سياسة "الهجرة الطوعية" التي يدعو إليها بن غفير.
وهذا يعني أمرًا واحدًا: أن إسرائيل لن تنجح على الأرجح في إخلاء شمال غزة من الفلسطينيين، وإذا فشلت في هذه المهمة في الشمال، فإنها ستفشل بالمثل في جميع مناطق القطاع الأخرى.
وبذلك، يفقد المشروع الاستيطاني الإسرائيلي في القطاع آفاقه وإمكانية تطبيقه بشكل مثالي على أرض الواقع. ولا يتبقى أمام نتنياهو وجماعات المستوطنين سوى حل واحد غير مثالي، وهو فرض الاحتلال العسكري مع بناء بؤر استيطانية في قلب مناطق الوجود العسكري الإسرائيلي.
وإذا أقدمت جماعات المستوطنين بالفعل على تنفيذ ذلك في القطاع، فسوف يعني ذلك بالضرورة تحميل المزيد من الأعباء على الجيش الإسرائيلي، الذي سيضطر إلى تغيير مهمته في غزة من محاربة فصائل المقاومة الفلسطينية، التي لا تزال قوية وتمتلك زمام المبادرة في الهجوم على الجيش في أي وقت، إلى مجرد حراسة هؤلاء المستوطنين، وتحمل تكاليف بقائهم في هذه الأرض بلا هدف أو غاية. وفي هذه الحالة، ستشهد المنطقة عمليات عسكرية نوعية ضد هؤلاء المستوطنين، قد تصل إلى حد الأسر، وهو ما يعني فشلاً استراتيجيًا كبيرًا.
وخلاصة القول هنا هي أن المشروع الاستيطاني الذي تحلم به دانييلا فايس، ويدعو إليه بن غفير، ويؤيده سموتريتش، ويتغاضى عنه نتنياهو، هو مشروع فاشل وغير قابل للتطبيق. ولكن يجب الانتباه إلى أن الحكم على هذا المشروع بالفشل يرتبط ارتباطًا وثيقًا بما نشهده من صمود بطولي للشعب الفلسطيني في مناطق وجوده في قطاع غزة، وخاصة الشمال. واستمرار هذا الصمود هو شرط أساسي لبقاء الحكم بفشل مشروع الاستيطان والتهجير الذي يسعى إليه الاحتلال.
ولذلك، فإن هذا يفرض دورًا محوريًا في تثبيت الفلسطينيين في شمال غزة على عاتق كل المؤمنين بالقضية الفلسطينية من جهة، وعلى دول الجوار التي لا تريد أن تشهد موجات نزوح جديدة من اللاجئين الفلسطينيين إليها من جهة أخرى، وذلك من خلال إجبار إسرائيل على إدخال مواد الإغاثة والمساعدات والسماح بتدفقها إلى تلك المنطقة.
إنها مسألة أمن قومي لدول الجوار في المقام الأول، وقضية حياة أو موت بالنسبة للقضية الفلسطينية في المقام الثاني. وأعتقد أن حكومات دول الجوار تمتلك من أوراق الضغط ما يمكنها من استخدامه ضد إسرائيل؛ حفاظًا على أمن هذه الدول الاستراتيجي، إن لم يكن حباً في الفلسطينيين.